الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ونظيره قوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13] ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع: الأول: قوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الأخرة} وفيه مسائل:المسألة الأولى:إن شئت جعلت {الذين} صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله: {أولئك} وإن شئت نصبته على الذم.المسألة الثانية:الاستحباب طلب محبة الشيء، وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محبًا لذلك الشيء، مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محبًا لهما، أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محبًا له، وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا} يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية، ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلًا عن الحياة الأخروية، وعن معايب هذه الحياة العاجلة، ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة، وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب.فأحدها: أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام والغموم والهموم والمخاوف والأحزان.وثانيها: أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام، بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات.وثالثها: أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء.ورابعها: أنها حقيرة قليلة، وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلًا عن معايبها وكان غافلًا عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية، ولذلك قال تعالى: {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه.المسألة الثالثة:إنما قال: {يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الأخرة} لأن فيه إضمارًا، والتقدير: يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذمومًا إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذمومًا حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.النوع الثاني: من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.واعلم أن من كان موصوفًا باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين.والنوع الثالث: من تلك الصفات قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}، واعلم أن الإضلال على مرتبتين:المرتبة الأولى: أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.والمرتبة الثانية: أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل، وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال، وإليه الإشارة بقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال صاحب الكشاف الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجًا، فحذف الجار وأوصل الفعل، ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم: {أُوْلَئِكَ في ضلال بَعِيدٍ} وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه:الوجه الأول: أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق، فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد، مثل السواد والبياض، فكذا هاهنا الضلال الذي يكون واقعًا على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال.والوجه الثاني: أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى، لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم.والوجه الثالث: أن يكون المراد من الضلال الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه. اهـ.
و{سبيل الله} طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله. وقوله: {ويبغونها عوجًا} يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل: أظهرها أن يريد: ويطلبونها في حالة عوج منهم. ولا يراعى إن كانوا بزعمهم على طريق نظر وبسبيل اجتهاد واتباع الأحسن، فقد وصف الله تعالى حالهم تلك بالعوج، وكأنه قال: ويصدون عن سبيل الله التي هي بالحقيقة سبيله، ويطلبونها على عوج في النظر.والتأويل الثاني أن يكون المعنى: ويطلبون لها عوجًا يظهر فيها، أي يسعون على الشريعة بأقوالهم وأفعالهم. ف: {عوجًا} مفعول.والتأويل الثالث: أن تكون اللفظة من المعنى، على معنى: ويبغون عليها أو فيها عوجًا، ثم حذف الجار، وفي هذا بعض القلق.وقال كثير من أهل اللغة: العِوج- بكسر العين- في الأمور وفي الدين، وبالجملة في المعاني، والعَوج- بفتح العين- في الأجرام.قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا القانون بقوله تعالى: {فيذرها قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا} [طه: 107] وقد تتداخل اللفظة مع الأخرى، ووصف {الضلال} بالبعد عبارة عن تعمقهم فيه. وصعوبة خروجهم منه. اهـ.
فأعاد دعوت لتفخيم الأمر.قوله تعالى: {اللهِ الذي له ما في السموات} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {الحميدِ اللهِ} على البدل.وقرأ نافع، وابن عامر، وأبان، والمفضَّل: {الحميدِ اللهُ} رفعًا على الاستئناف، وقد سبق بيان ألفاظ الآية.قوله تعالى: {الذين يستحبُّون الحياة الدنيا}أي: يؤثرونها {على الآخرة} قال ابن عباس: يأخذون ما تعجَّل لهم منها تهاوُنًا بأمر الآخرة.قوله تعالى: {ويَصُدُّون عن سبيل} أي: يمنعون الناس من الدخول في دِينه،: {ويبغونها عِوَجًا} قد شرحناه في [آل عمران: 99].قوله تعالى: {أولئك في ضلال} أي: في ذهاب عن الحق: {بعيد} من الصواب. اهـ.
|